الحمد لله ربّ العالَمين
وصلّى الله وسلَّم وبارَك على سيّدنا محمد رسول الله وعلى
آله
برنامج «
سؤال أهل الذكر »
مِن القناة الأولى - سلطنة عُمان
حلقة ليلة 28 ذو الحجّة 1425هـ
(المفتي العام لسلطنة عُمان)
موضوع الحلقة: الهجرة النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم)
س1: ماذا
يعنِي بالنِّسبةِ للمسلِم مُرُورُ مثلِ هذا الحدَث .. حدث الهجرة النبوية؟
ج: إنّ ذِكرياتِ المصطفى-عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام-جَميعا تَنضَح
بالعِبَر، وتَتدفَّق بالعِظات .. فيها الدروسُ الكثيرة التي يَستفيدُها المسلِم،
لأنّ كلَّ موقفٍ مِن مواقفِه - صلى الله عليه وسلم - كان درسا لأمّته .. كان درسا
للإنسانية، فهو عليه أفضل الصلاة والسلام أُرسِل لِيكون رحمة للعالمين، وسراجا
للمهتدين، وإماما للمتقين، ونعمة على الخلق أجمعين، فكانت شخصيتُه - صلى الله عليه
وسلم - شخصيةً متميزة ما بين الشخصيات البشرية مِن كلِّ ناحيةٍ مِن النَّواحي.
وقد ربَّى - صلى الله عليه وسلم - جيلا مِن المؤمنين .. ربّاهم بِعناية
الله-تعالى-وتوفيقِه على أُسُسٍ قويمة مِن تَعَاليمِ الحق .. ربّاهم عَلى كتابِ
الله وعلى هَدْيِه عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانوا كما وَصَفَهُم الله-تبارك
وتعالى-في كتابه عندما قال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى
سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرا
عَظِيما} [سورة الفتح، الآية: 29] .. هكذا كان هدْي أصحابِ رسولِ الله - صلى الله
عليه وسلم -، لأنَّهم تأثَّرُوا بشخصيَّتِه - صلى الله عليه وسلم - التي كانت
تَجْسِيدا لِما جاء به مِن أمرِ الله-تعالى-ولِما نَزل عليه مِن أخلاقٍ قرآنية
أراد الله-تعالى-بها تطهيرَ هذه النفوس مِن الأخلاقِ المذمومة.
فهجرتُه - صلى
الله عليه وسلم - كانت إجراء ضروريا أَمْلَتْه الظرُوفُ الرَّاهِنة في ذلك الوقت
وَدَبَّرَه القَدَرُ الإلِهي حتى تَتَرَبَّى هذه الأمّة على التضحيات العظيمة
وَتَتَرَبَّى على التوجُّه إلى الله-تعالى-في كلِّ موقف بِحيث تَستَلْهم منه
الرُّشد وتَستنْزِل مِن قِبَلِه النَّصر وَتُعَوِّل عليه في التَّوفيق
والتَّسْدِيد .. تَأخذُ بالأسباب ولا يَكون تعويلُها عليها ولكن لابد مِن الأخذ بِها
.. إنَّما التعويلُ على الله وَحْدَه الذي يُدبِّرُ الأمُور وَيُصَرِّفها كما
يَشاء - سبحانه وتعالى -.
فالهجرة جاءتْ
على أَثَرِ أزمةٍ شديدة أصابتْ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصابت الأمّة
وأصابتْ الدعوة التي كان يَدعو بِها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - .. هذه
الأزمة بِسببِ أنّ عَمَّ النبي-عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام-أبا طالب
الذي كان يَحنُو عليه ويُدَافِعُ عنه ويَتَمَيَّزُ في المجتمعِ المكّي بِمكانة
اجتماعية مَرْمُوقَة .. قَبَضَه الله-تبارك وتعالى-ونَقَلَه مِن الدارِ الدنيا إلى
الدارِ الآخِرة، وَتَلَتْهُ السيدة خديجة رضوان الله-تعالى-عليها، وهي مَن هي في
وفائِها لِلنبي - صلى الله عليه وسلم - وحُنُوِّها عليه ومُواساتِها لَه وعنايتِها
بِشَخْصِه، فأُصِيبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِأزمة شديدة، وهكذا شاءَ الله
- سبحانه وتعالى - أن تَتوالَى الظروفُ الصِّعاب وأن تَكادَ الدعوة تَخْتَنِقُ
أنفاسُها في المجتمعِ المَكّي، فشاءَ الله-سبحانه-إِبّانَ ذلك أن تَجِدَ هذه
الدعوة مُتَنَفَّسًا لَها، وأن يَكونَ هذا المُتَنَفَّس في أرضِ " طَيْبَة
"، وأن يَكون هذا الخيْر يُساقُ مِن قِبَلِ القدَرِ الإلهي إلى قبيلتيْن
عَرَبِيتَيْن عاشتَا ردْحا مِن الزَّمَن تَتَنَاحَر حتى كانت التارَات والترَات
مَواريثَ يُوَرِّثُها الآباء والأجداد لِلأولادِ والحفدة، فظَلّوا هكذا يَتوارثُون
العداوات فيما بيْنهم، وإذا بِهذا الخَيْر يَسُوقُه الله-تعالى-إليهم لِيَجْمَعَ
الشتات وَلِيُوَحِّدَ الصَّف وَلِيَرْأَبَ الصَّدْع وَلِيَسْتَلَّ مِن القلوبِ
السخائمَ والأحقاد ولِيخلِّصَهَا مِمَّا كانتْ تَحْمِله مِن شُحَنِ الإحَن
والفِتَن لِتَحِلَّ مَحلَّ ذلك الموَدَّة والحَنَان والوِئَام.
فَجَرَتْ
ظُرُوفٌ مُعَيَّنَة حَصَلَ فيهَا مَا حَصَل حتى تَهَيَّأَتْ هذه النفوس لاستقبالِ
هذا الخيْر، وساقَ الله-تبارك وتعالى-إليها هذا الخيْر، فاحْتَضَنَ هذه الدَّعْوَة
الأَوْسُ والخَزْرَج بَعدَ تَنَاحُرِهِمَا المُستمِر، وَبَايَعُوا النبي - صلى
الله عليه وسلم - بيْعةَ العقبة الأولَى، ثم تَلَتْهَا بيعةُ العقبةِ الثانية في
العامِ الثاني، ثم على أَثَرِ ذلك كانتْ الهجرة إلى المدينةِ المنورة بِحيثُ
بَدَأَ أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَرْسَالا يُهَاجِرون إلى المدينةِ
المنورة حيثُ وَجَدُوا دِفْءَ المَوَدَّة، وَوَجَدوا صِدقَ الإخاء، وَوَجَدوا
المواساة التَّامَّة مِن الأنصار.
وفي هذا تَربية لِهذه الأمّة على ماذا يَجِبُ أن تَتَرَبَّى .. إنَّما هذه الأمّة
أمّة تَجمعُها عقيدة .. يَجمعُها إيمان .. تَجمعُها وَلايَة في حقِّ الله تبارك
وتعالى، كما يَقولُ الحقُّ سبحانه فِي وَصْفِ المؤمنين والمؤمنات:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ... } [سورة التوبة، من الآية: 71].
وقد أَرَادَ
الله - سبحانه وتعالى - أن يَتَجَسَّد هذا كلُّه بِهذه الهجرة، فكان أوّلا
التَّلاحُم ما بيْن طرفَي الأنصار .. ما بيْن القبيلتيْن المُتَعَادِيَتَيْن
المُتَنَاحِرَتَيْن، ثم بعدَ ذلك كان ذلك التَّلاحم بَيْن المهاجرين والأنصار،
فكان المُهَاجرون يُهاجرون أَرْسَالا مُخَلِّفِين ورائهم دُورَهُم وأموَالَهم
وأولادَهم وكلَّ غَالٍ ونفِيس عندَهم في سبيلِ الحَق ومِن أجْل إبلاغِ هذه الدعوة
ومِن أجْل القيامِ بِواجبِ نُصْرَةِ الله-تبارك وتعالى-ورسولِه، كَمَا يَصِفُهم
الله - سبحانه وتعالى -: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانا
وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [سورة الحشر،
الآية: 8].
والأنصَار مِن جَانِبِهِم استَقْبَلُوا هؤلاء المهاجِرين بِتِلْكُم القُلُوب
الدَّافِقَة بِعَوَاطِف المَوَدَّةِ والإخَاء .. تلك القلوب التي غَمَرَتْ
المهاجِرين بِتِلْكُم المَشَاعِر النَّبِيلَة، وقد بَيَّن الله-تبارك
وتعالى-تَضحياتِهم عندَما قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ
مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر، الآية: 9].
هكذا كان شأنُ المهاجِرين والأنصار .. حَصَلَ ما بيْنهم ما حَصَل مِن التلاحم
والتراحم والإخاء والمَوَدَّة والوِئَام، وذابتْ تلكم الفوارِق التي حصلت.
وَنَحْنُ نرى
كيف أنّ هذه الهجرة جَمَعَتْ ما بيْن أجناسٍ وأَلْوَانٍ وأنواع .. جَمَعَتْ ما
بَيْن العَرَبِي-فإنّ مُعظمَ المهاجِرين كانوا مِن العَرَب-وصُهَيْب الرُّومي-وإن
كانتْ هذه النسبة ليستْ لأنه يَنحدِرُ مِن عنصرِ الروم ولكنه نُسِبَ إلى الروم على
أيِّ حال-وسلمان الفارسي-الذي الْتَحَقَ مِن بعد أيضا بِدارِ الهجرة-وبلال الحبشي
رضي الله-تعالى-عنهم، فَكَان ذَوَبان في بُؤتَقَةِ الإيمان.
كذلك جَمَعَتْ ما بيْن نَوْعَيْن مِن الجِنْس البَشَرِي .. ما بيْن الذكورِ
والإناث، إذ الهجرة كانت حَدَثا اشتَرَكَ فيه الذُّكورُ والإناث، فالنبي - صلى
الله عليه وسلم - عندَما هَاجَر كان معه أبو بكر-رضي الله تعالى عنه-وَخَلَّفَ في
مَرْقَدِه عليا-كرّم الله وجهه-وآوَى مع رَفيقِه إلى الغَار، وكانتْ بنتُ أبي بكر
أسماء-رضي الله تعالى عنهما-هي التي تَنْقُلُ إليهما الزَّاد مع ما حَصَلَ مِن
كونِ رَاعِي أبي بكر يَغْدُو وَيَرُوحُ عليهما بِالغَنَم حتى يَشْرَبَا مِن
أَلبانِهَا وحتى يُعَفِّيَ بِآثارِها على آثارِ تَرَدُّد بنتِ أبي بكر إلى مكانِ
الغَار، ثم كانتْ تلكم الانطلاقة.
ففي هذا مَا يَشْحَنُ
قَلْبَ المؤمِن بِهذه الشُّحْنَة الإيمانية بِحيثُ يَرَى المؤمِن أنه مِن الضرورة
بِمكان أن يَحرِصَ على ما يَجْمَعُ شَمْلَه بِإخوانِه المؤمنين .. على ما يُصَفِّي
هذه القلوب مِن أَكْدَارِها حَتى لا تَبقَى هنالِك آثار لِشقاقٍ أو خِلافٍ أو
نِزَاعٍ حَصَلَ ما بيْن أَحَدٍ وآخَر وإنَّما يَجِبُ أن يُمحَى أَثَرُ جميعِ ذلك
وأن تَحل المَوَدَّة مَحل البَغْضَاء وأن يَحل الوِئَام مَحل التَّفرّق وأن يَحل
الوِفَاق مَحل الشِّقاق لِيَجتمِعَ شَمْلُ الأمّة على الخيْر .. هذا مع
التَّضْحِيَة والمواساةِ بالمال كما حَصَلَ ذلك مِن الأنصار، وَكَمَا حَصَلَ مِن
المهاجِرين أوّلا الذين ضَحَّوْا بِأموالِهم ودِيارِهم وأَعزِّ ما يَملِكون
وانتقَلُوا إلى إِخوانِهم الأنصار، ثم بِجانبِ ذلك ما حَصَلَ مِن الأنصار مِن
مُآواةِ هؤلاء المهاجِرين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ... } [سورة الحشر، من الآية: 9]
.. هم لا يَستقبِلُون هؤلاءِ المهاجِرين بِشيءٍ مِن الامْتِعَاض وَبِشَيْءٍ مِن
الضَّيْق، وإنَّما كانوا يَستقبِلُونَهم بِالمَحَبَّة، فهم يُحبُّون هؤلاءِ
المهاجِرين الذين يُهاجِرون إليهم مع أنّ هذا عَكْس الطَّبيعة البشرية، فالطبيعة
البشرية مَجْبُولَة على أن يُحِبَّ الإنسان دَائِما أن يَحْظَى بِالتَّمَتُّع
بِخيْرِه بِنفسِه مِن غيْرِ أن يُشَارِكَه أَحَدٌ فيه، والمدينة التي هاجَر إليها
المهاجِرون مدينة مَحْدُودَة المساحة ومَحْدُودَة المَوارِد .. هي واقعة ما بيْن
لابَتَيْن ومَوَارِدُها الزراعية مَحدودَة ولكن مع ذلك كان الأنصارُ يُحبّون
المهاجِرين مِن أعمَاقِ قُلُوبِهم: { ... وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
... } [سورة الحشر، من الآية: 9] .. هذا الإيثار على النفس مِن أَهَمِّ الأمور ..
كانوا يُؤثِرونَ على أنفسِهم ولو كانوا يَشعرُون بِالفقر وبِالحاجة .. ما كانوا
يُبَالُون بِذلك، وإنَّما كانتْ مَوَدَّةُ إخوانِهم المهاجِرين غالِبة عليهم
فلِذلك آثَرُوهُم على أنفسِهم.
هكذا يَجِب أن يَكون التلاحم ما بيْن الفئات المسلِمة، وأن يَتَلَقَّى المسلمون
الدرس مِن هذا الحدَث التأريخي العظيم لِيَعِيشُوا عيشَةً تُجسِّدُ تلْكُم القِيَم
التي جاءَ بِها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مِن أجْل جَمْعِ شَتَاتِ هَذه
الأمّة ولَمِّ شَعَثِها وتَوْحِيدِ كلمَتِها.
س2: الدرجة التي بَلَغَها الصحابة-مهاجِرين وأنصارا-في بَذْلِهم وعطائِهم
فالمهاجِرون تَركوا ما تَركوا والأنصار استَقبَلوا المهاجِرين بِذلك الصدْر
الرَّحب فقَاسَمُوهم أموالَهم وأزواجَهم، هل هذا هو مَحض تَوفِيق مِن الله - عز
وجل - .. هو لا شك أنه تَوفِيق لكن هل هناك تَسَبُّب مُسبَق مِن قِبَلِ هؤلاء
لِلعنايةِ بِأنفسِهم زكاةً وطهارة أو أنّ هذا كان مِن قبيل الذي قد لا يُتَصَوَّر
أنَّه يَتكرّر .. هَيَّأَه الله - عز وجل - لِلتَّكْوينِ الإسلامي في ميلادِه؟
ج: هذا إنَّما يَعودُ إلى الإيمان .. عُمقُ الإيمان هو الذي يَفعَل العَجَب في
الإنسان، فالإيمان رَسَخ في قلوبِ هؤلاء، وبِقَدْرِ رُسوخِ هذا الإيمان كانت
العناية الإلهية بِهؤلاءِ الناس حتى اسْتَعْلَوْا على الطبائع البشرية المَألوفة،
فكانوا أُمّةً مِثَالية في مَودَّةِ بعضِهم لِبعض وتَرحيبِ بعضِهم بِبعض وَحِرْصِ
بَعضِهم على مصلحةِ بعض .. هكذا كلُّ ذلك إنَّما كان بِعُمْقِ أَثرِ الإيمان في
نفوسِهم.
س3: مِن
السعودية تَقول: في البداية نَشكُر الشيخ على ما نفعَنا به مِن عِلمِه الفيّاض
وأنا أُحبُّه في الله وأُحبُّ متابعةَ تفسيرِه لِكتابِ الله فهو تفسيرٌ دقِيق
ومُلِمٌّ بِكل الأقوال، فأسألُ الله لَه التوفيق وأن يُجزِل لَه الثواب.
سؤالي: إني قرأتُ مَقالا في جريدةٍ عن الشيخ الشَّعراوي يَقول فيه: " إنّ
قراءةَ آياتِ الشفاء التي في القرآن تَنفَعُ في علاجِ المريض مثل قولِه تعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ... } [سورة الإسراء، من الآية:
82] "، فهل هذا صحيح؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: لأختِنا هذه الشكر والتقدِير والمودَّة، وأسالُ الله-تبارك وتعالى-أن يُبارِك
في حياتِها، وأن يُمِدَّ في أنفاسِها، وأن يُوفِّقَها لِلصالحات، وأن يَأخُذَ
بِيدِها إلى ما يَحِبُّه ويَرضاه مِن الخيْر.
والجوابُ على هذا السؤال أنّ الله-تبارك وتعالى-جَعَلَ القرآنَ الكريم مصدَرَ
الخيْرِ كلِّه.
لا ريب أنّ القرآنَ الكريم هو شفاءٌ لِلقلوب .. علاجٌ لِلأمراضِ النفسية .. علاجٌ
لِلأَدْوَاءِ البَشَرِيَّة، لأنّ الله-تبارك وتعالى-أنزلَه لِيَكُونَ هُدًى لِلناس
وبيِّناتٍ مِن الهُدى والفُرْقَان، فهو يَشْفِي مِن كلِّ ناحيةٍ مِن النواحي ..
يَشفِي مِن الناحيةِ الفكرية، لأنه يُنِيرُ البصائر بِالفكرِ الصحيح .. بِالعقيدةِ
السويَّة .. بِالإيمانِ الخالِص.
وهو مع ذلك شفاء مِن ناحيةِ العبادة، لأنه يُوَجِّه النُّفوس إلى أن تَعْبُدَ الله
وَحْدَه وأن تَتعلَّقَ بِه بِحيثُ لا تَتعلَّقُ بِغيرِه.
وهو شفاء-أيضا-مِن حيثُ العلائِق الاجتماعية بِما يَأمُرُ بِه مِن الخيْر ويَأمُرُ
بِه مِن التَّرَابط بيْن عبادِ الله المؤمنين.
وهو شفاء مِن حيثُ التَّشرِيع، لأنه أَعطَى كلَّ ذِي حقٍّ حقَّه وأقامَ الناس على
سواءِ الصِّراط.
وهو
شفاء-أيضا-مِن ناحيةِ الأمراض الحِسِّية المَعْرُوفة، لأنّ الله-تعالى-جَعَل فيه
بَرَكَة، وقد كان النبي-عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام-يَستشفِي بِه،
لأنه - صلى الله عليه وسلم - كثيرا مَا كان يَستعمِل الرُّقْيَة .. كان يَرْقِي
بِالقرآنِ الكريم .. عندَما يَتَأَلَّم ويُصَابُ بِمرض يَقرأُ مِنَ القرآنِ ما
يَقرَأ في كَفَّيْهِ ثُم يَنْفُث في كَفَّيْه ثُم يَمسَحُ بِهما جسدَه الشريف،
وهكذا كان - صلى الله عليه وسلم - يَرقِي بِالقرآنِ الكريم لِغيْرِه مِن الناس،
وكان يُقِرُّ الرُّقيَة عندَما رَقَى بعضُ الصحابة أَحَدًا سَلِيمًا-أي مُصابًا
بِلَدغَةِ أَفْعَى-بِالفاتِحة الشريفة أَقَرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقالَ لَه: (مَن أَنبأَكَ أنَّها رُقْيَة)، وهكذا، فهذا كُلُّه يَدلّ على أنّ
القرآنَ كلَّه شفاء، فمَن قرأَه على نفسِه وطَلَبَ مِن الله-تبارك وتعالى-الشفاء
شَفاهُ الله بِبَرَكَةِ القرآن الكريم، هذا لأنّ القرآنَ الكريم كلامُ الله-تبارك
وتعالى-الذي لا يَأتِيهِ الباطل مِن بيْنِ يديْه ولا مِن خَلْفِه: {لا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ} [سورة فصلت، الآية: 42]، ولأنّ تلاوتَه عبادَة وقُرْبَة إلى الله،
فالإنسانُ الذي يَقرأُ القرآن إنَّما يَتَقَرَّب إلى الله-تبارك وتعالى-بِتلاوَتِه
ثم يَسألُ الله-تبارك وتعالى-أن يُعَافِيَه، فاتَّخذَ القرآن وسيلةً لاستجابةِ
دعائِه مِن قِبَلِ الله - سبحانه وتعالى -، فالله يَستجِيبُ لِدعائِه وَيَشْفِي
عِلَّتَه بِفضلِه وتَوفيقِه وهو-تعالى-على كلِّ شيءٍ قدِير ..
هو - سبحانه
وتعالى - وحدَه الشافِي، فكلُّ علاج يَسْتَشْفِي بِه الإنسان إنَّما يَتخِذُه
مُجرَّدَ وسيلَةٍ فقط وإلا فالشافِي الحقيقي هو الله، لأنه هُو الذِي يَجعَلُ
الدَّوَاءَ يُؤثِّرُ في الداء حتى يَقضِيَ عليه أو حتى يُخَفِّفَ منه، وإلا
فالدواءُ لا يُؤثِّرُ تلقائيا في الدَّاءِ إلا بِأمرِ الله - سبحانه وتعالى -، كما
يَقولُ إبراهيمُ الخلِيل - عليه السلام -: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}
[سورة الشعراء، الآية: 80]، فهكذا يَشْفِي الله-تبارك وتعالى-عبادَه بِاستعمالِهم
الأدْوِيَة عندَما يُرِيدُ ذلك، وكذلك يَشفِي الله-تعالى-عبادَه عندَما يَسألونَه
ويَتضرَّعون إليه، والقرآن مِن وسائلِ إجابةِ الدعاء فلا مانِعَ مِن الاستشفاءِ
بِه.
س4: نَرجوا مِن الشيخ تَوضِيح حديث: (لا هجرةَ بعدَ الفتح).
ج: كانت
الهجرة إجراءً ضرورِيا حتى أنّ الصِّلَة التي يُعَبَّرُ عنها بِالوَلاية ما بيْن
المهاجرِين أنفسِهم وما بيْنهم وبيْن الأنصار .. هذه الصِّلَة كانتْ لا تُمْنَحُ
لِمن تَلَكَّأَ عَن الهِجْرَة ولو آمَن، فالله-تبارك وتعالى-يَقول: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
حَتَّى يُهَاجِرُوا ... } [سورة الأنفال، من الآية: 72]، فالله - سبحانه وتعالى -
ما جَعَلَ لَهم مِن الوَلايةِ نصِيبا إلى أن يُهَاجِروا، ذلك لأنّ الهجرةَ صارتْ
أمرا ضرورِيا لابد منه .. هذا لأجْل أن تَقوَى شوكةُ المسلمين مِن ناحية، ومِن
ناحيةٍ أخرى لأجْل أن يَجِدَ المسلِمُ جوَّ الحريةِ الذي يَتنفَّسُ فيه بِحيثُ إنه
يَعبُدُ الله-تعالى-وهو حُر لا يُضَايِقُه مُضايِق في عبادَتِه لله - سبحانه
وتعالى -.
وبعدَ أن كان الفتح جاءَ النَّاسُ وأخذُوا يَدخلُون في دِينِ الله أَفْوَاجا، فلَم
يَعُدْ هنالك داعٍ إلى الهجرة، إذ الناسُ وَجَدُوا المُتَنَفَّسَ الذي
يَتنفَّسونَه .. وَجَدُوا الجَوَّ الحُر الذي يَتنفَّسُون فيه في أيِّ بُقْعَةٍ
مِن جَزِيرةِ العَرَب فلذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا هجرةَ بعدَ
الفتح).
فالمسلِمون غيرُ مطَالَبِينَ بِأن يُهَاجِرَ أَحَدٌ منهم إلى مكانٍ آخَر .. بلادُ
الإسلام كُلُّها مِن شَرْقِها إلى غَرْبِها ومِن شَمَالِها إلى جَنوبِها هي بلادٌ
واحِدَة مِن هذه الناحية .. لا ريْب أنّ بعضَ البلادِ أفضلُ مِن بعض، فالحرَمَان
الشرِيفان أفضلُ مِن غَيْرِهِمَا، ولا شك أنّ الأعمالَ الصَّالِحة يُضاعَفُ
أَجرُها هناك، ولكن هذا لا يَعنِي أن يَتْرُكَ الناسُ بلادَهم وأن يُهاجِروا إلى
الحرمَيْن الشرِيفيْن، أو أن يُهاجِروا إلى أَحدِ الحرَمَيْن الشرِيفيْن، أو أن
يُهاجِروا-عندَما كان بيتُ المقدِس في أيديهِم-إلى بيتِ المقدِس .. لا، لأنّ بلادَ
الإسلامِ كلَّها يَجِبُ أن تُعمَر، فاستِقرارُ الناسِ في أماكنهِم إنَّما هو
لأجْلِ عمارةِ هذه الأرض والقيامِ فيها بِأمْرِ الله وإبلاغِ دعوةِ الله وتعليمِ
دِينِ الله بعدَ تَعَلُّمِه .. هذا مِمَّا يَنبغِي أن يُحرَصَ عليه ولكن لَو وَجَد
المسلِمون مضايَقَة بِسببِ سيطرةِ بعضِ الناسِ الذين يُضَايِقُونَهم في أَمرِ
دِينِهم، كالذِي حَصَل إِبّان الحروبِ الصليبِية، وكالذِي حَصَل في الأندلُس
عندَما أُبِيدَ المسلِمون هناك وَفُرِضَ على بَاقِيهِم إما أن يَتَنَصَّرَ وإمَّا
أن يُقتَل، وكالذِي حَصَل عندَما قامت الثورات الشيوعية وأخذتْ تُحارِبُ الدِّينَ
مُحارَبَةً لا هوادَةَ فيها فلَم يَستطِع أَحَدٌ في تلكُم الأجواء أن يَعْبُدَ
الله-تعالى-عبادَةً كامِلةً كما يُرَادُ مِنه وكما يُرِيدُ بِنفسِه .. في مثلِ هذه
الأجواء يُؤمَرُ الإنسان أن يُهاجِر حتى لا يُضَايَق وحتى يَجِد المُتَنَفَّس ولكن
ليستْ هذه الهجرة إلى بلدٍ مُعَيَّن، وإنَّما هي إلى أيِّ بلدٍ يَجِدُ فيه الإنسان
الجوَّ المُلائِم .. جَوَّ الحرية لِيَتَنَفَّسَ فيه ولِيَقومَ فيه بِواجباتِ
دِينِه.
س5: نَصيحة لِلعالَم الإسلامي وهو يَستقبِلُ عاما هجريا جدِيدا.
ج: نبدأُ
أوَّلا بِتَهْنِئَة المسلِمين جَمِيعا بِهذه المُناسبةِ الغَاليةِ العزِيزة، ونَحن
نَرفَعُ أَكُفَّ الضَّراعة إلى الله-تبارك وتعالى-أن يَجعلَ العامَ المستقبَل عامَ
يُمْنٍ وبَرَكَة وخيْرٍ ووِئام ووِفاق ما بيْن الأمّةِ الإسلامية، بِحيثُ يَجمَعُ
الله فيه شَتاتَها، وَيُؤلِّفُ فيه بيْن قُلوبِها، ويُوحِّدُ فيه كلمتَها،
ويَغمُرُها الله-تبارك وتعالى-بِأَلطافِه، ويَنتشِلُها مِمَّا وَقَعَتْ فِيه مِن
الضّيَاع، ونَسألُ الله-تبارك وتعالى-أن يَمُنَّ على هذه الأمّة بِالنَّصْرِ
العتِيد والتمكِين في الأرض وتَمْكِينِ دِينِها الذي ارتضاهُ لَها - سبحانه وتعالى
-.
ثم مع هذا نَقول بِأنَّ مرورَ الأعوام فيه عِبَر لِلأفراد ولِلمجتمعات ولِلأمَم،
فلِذلك على كلٍّ أن يُحاسِبَ في مثلِ هذه المناسبةِ نفسَه.
هذه مرحلة مِن حياةِ البَشَر .. مَرحلة مِن حياةِ الفرْد مَرَّتْ، ومَرحلة مِن
حياةِ المجتمَع، ومَرحلة مِن حياةِ الأمّة، فإذن على الأمّة أن تُحَاسِبَ نفسَها.
نَحنُ عندَما
أَشْرَقَتْ إِشْرَاقَةُ القرْن الهجري الجدِيد .. بعدَما مَرَّ القرْن الرابِع
عشَر تَطَلَّعْنا إلى أن يَكونَ القَرْن الجدِيد قَرْنَ وَئِامٍ ووِفاقٍ بيْن
الأمّة، وأن يَرِيشَ الله-تبارك وتعالى-فيهِ هذه الأمّة بعدَما أُصِيبَتْ بِما
أُصِيبَتْ بِه في القرْن الذي مَضَى مِن التَّفَرُّق والاختلاف والشِّقاق
والنِّزاع والهزيمَة وضيَاع المُقَدَّسَات إلى غيْرِ ذلك مِمَّا رُزِئَتْ بِه هذه
الأمّة، ورَجَوْنا-أيضا-لِلإنسانية الخيْر في القرْن الهجري الذي نَحنُ فيه، ذلك
لأنّ القرْن الذي مضى كان قَرْنَ مَآسِي، لا بِالنِّسبة إلى الأمّةِ الإسلامية
فحسْب بل بِالنِّسبة إلى الإنسانيةِ قاطِبَة، وحسْبُنا لَوْ نظرْنا نَظرةً إلى
الحرْبيْن العالَمِيَتَيْن وما خَلَّفَتَاه مِن دَمارٍ كبِير، وما كان فيهِما مِن
حَصْدِ أرْواحٍ لا تُحصَى .. هذا دَمار .. هذا مِمَّا لا يَتمنّاه أيُّ أَحد فيه
ذَرَّةٌ مِن خيْر لِهذه الإنسانية .. إنَّمَا الكُل يَتَمَنَّى أن تَكونَ
الإنسانية في خيْر وأن تَسعَى إلى الخيْرِ دائما لا أن تَسعَى إلى دَمَارِهَا.
ومَضَى الآن رُبُع قَرْن، والآن نَستقبِل الرُّبُع الثانِي مِن هذا القَرْن
الهجرِي، فهَلْ نَجِدْ أنّ المسلِمِينَ حاسَبُوا أنفسَهم؟
فنحنُ-على أيِّ حال-نُذَكِّرُ المؤمِنِين جميعا بِأنّ مِن واجبِهم أن يُحاسِبُوا
أنفسَهم، وأن يَسْعَوا إلى جَمْعِ شَتاتِهم وتَوحِيدِ صَفِّهِم والْتِفافِ بعضِهم
حولَ بعض مِن أجْلِ التَّعاونِ على الخيْر .. مِن أجْلِ الدَّعوة إلى الله .. مِن
أجْلِ إبلاغِ رسالةِ الإيمان إلى الخلْق .. مِن أجْلِ تَبْصِيرِ هذه النفُوس بِما
فيهِ صلاحُها وبِما فيهِ رُشْدُها وبِما فيهِ مَنْفَعَتُها.
هذا مِن واجِب
المسلِمِين أن تَتَضَافَر عليه جُهُودُهم، ومع هذا فإنّ على كلِّ فرْد-أيضا-أن
يُحاسِبَ نفسَه بِمَاذَا أَسهَمَ في هذا، فإنّ الأمَم إنَّما تَتكوَّنُ مِن
الأفراد، والمجتمَعَات تَتكوَّنُ مِن الأفراد، فلا يُمكِن أن تَسعَدَ أُمَّة إلا
عندَما يَكونُ أفرادُها ساعِينَ إلى الخيْر، دُعَاةً لَه، حَامِلِين لَه إلى الناس
.. يَأمُرون بِالمعروف ويَنهوْن عن المنكَر، فهذه مَسؤولية الأفْراد، فعلى كلِّ
فرْدٍ إذن وهو يَمُر بِهذه المناسبة أن يُحاسِبَ نفسَه على ذلك.
س6: السفر لِطلبِ العلم أو السفَر لِلدعوة، هل يُعتبَر هذا تَطبِيق عمَلِي ... ؟
ج: هذا مِمَّا يُعَدُّ خُروجا إلى الله تبارك وتعالى .. لَو خَرَجَ إنسان مِن
بَلَدٍ إلى بلد لأجْلِ طلبِ العِلم لا يُعَدُّ ذلك سَفَرا دُنيويا وإنَّما يُعَدُّ
ذلك مِن بابِ أن يَخرُجَ الإنسانُ مِن بيتِه مهاجِرا إلى الله ورسولِه، وقد قال
تعالى: { ... وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ... } [سورة النساء، من
الآية: 100]، فَمَن خَرَج مهاجِرا إلى الله وأَدْرَكَه الموتُ في طَرِيقِه فعلى
أيِّ حال أَجرُه على الله-تبارك وتعالى-أجْرٌ كبِير .. معنَى هذا أنه يُثاب ثواب
الهجرة إلى الله بِقَدْرِ إِخلاصِ نيتِه وبِقَدْرِ صفاءِ طَوِيَّتِه وما يُضْمِرُه
ما بيْن حنايا ضميرِه.
وكذلك مَن خَرَجَ مِن أجْلِ أن يَدعُوَ إلى الله ويُبَصِّرَ الناسَ بِالحق
ويُذكِّرَهم بِه ويُعلِّمَهم أَمْرَ دِينِهم ويَأمُرَهُم بِالمعروف ويَنهاهُم عن
المنكَر فهذه هِجْرَةٌ إلى الله.
س7: هل كانتْ الهجرة النبوية أَمْرا ربّانِيا أو أنّ هذه الهجرة كانتْ بِدافِع
وُجودِ مُتَنَفَّس لِلدعوةِ الإسلامية بَعدَ أن ضاقَتْ في مكة المكرمة؟
ج: الهجرة لَم تَكُن اجتهادا مِن الرسول-عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة
والسلام-وإنَّما كانتْ هذه الهجرة أمْرا مِن قِبَلِ الله - سبحانه وتعالى - ..
أَرادَ الله-تعالى-بِه أن تَتَرَبَّى هذه الأمّة على الخيْر .. أَرادَ أن
يُرَبِّيَها على التَّضْحِية، وأن يُرَبِّيَها على الوِئام والمَوَدَّة، وأن
يُرَبِّيَها على الاستعلاء عن كلِّ الجَوَاذِبِ إلى الأرض بِحيثُ تَرتَفِع إلى
قِيَمِ السماء .. هكذا كانت الهجرة.
وهَيَّأَ الله - سبحانه وتعالى - الظروف التي دَفَعَت المسلِمِين إلى الهجرة مع
كونِه أَمَرَهم بِها عندَما وَقعتْ هذه الظروف وتَمَّ ذلك على يَدَي الرسولِ - صلى
الله عليه وسلم - والمؤمنين فأُنْشِئَت الدولة الإسلامية في ظِلِّ هذه الهجرةِ
النبوية، إذ كانت المدينة المنورة هي مركزَ هذه الدولة النَّاشِئَة الجديدَة،
ومنها انطَلَقَت إلى أرجاءِ الأرض.
س8: هل الهجرة النبوية الشريفة-على صاحبِها أفضل الصلاة وأَزْكَى التَّسلِيم-كانتْ
في شهر مُحَرَّم؟
ج: الهجرة-على أيِّ حال-صَارَتْ بعدَ بيْعةِ العَقَبَة الأولى .. كانتْ هجرة
مَحدودَة .. هاجَرَ مَن هاجَر إلى المدينة المنورة مِن أجْلِ أن يُعلِّمَ الأنصار
أَمْرَ دِينِهم .. هاجَر مُصْعَب بن عُمَيْر-رضي الله تعالى عنه-مِن أجْلِ أن
يُبَصِّرَ الأنصارَ بِأمْرِ دِينِهم، ثم كانتْ بيعة العَقَبَة الثانية فهاجَر بعدَ
ذلك الناسُ أَرْسَالاً إلى المدينة المنورة، إذْ وَجَدَ الناسُ الحِمَى الذي
يَحْتَمُون بِه والمَأْوَى الذي يَأْرِزُون إليه، وَوَجَدُوا الجماعة التي
يَلْتَفُّونَ حَوْلَها.
وأَمَّا النبي
- صلى الله عليه وسلم - فقَدْ كانتْ هجرتُه في شهر ربيع الأول، ولكن عندَما دَرَسَ
المسلِمُون قضيةَ التأريخ وأرادوا أن يُنشِؤوا لأنفسِهم تَأريخا كما هو الحالُ
عندَ الأممِ الأخرى إذ الضرورة دَاعِيَة إلى ذلك لأنَّهم كانوا قبلَ هذه الفترة
إنَّمَا يُؤَرِّخُون بِالأحداث، فأرادوا أن يَكون لَهم تأرِيخ زَمَنِي مُحدَّد،
وقد كان ذلك في عهدِ عمر رضي الله-تعالى-عنه .. قَلَّبُوا وُجُوهَ الرأي ونَظَرُوا
بِماذا يَبْدَؤون هذا التَّأريخ، فَرَأَوْا أن يَبدَؤُوه بِهجرةِ الرسولِ - صلى
الله عليه وسلم -، لأنّ هذه الهجرة كان بِها مِيلادُ الدولةِ الإسلامية، فلِذلك
رَأَوْا أنّ الأمّةَ كأنَّما وُلِدَتْ بِهذه الهجْرة، إذ كان المسلِمون قبلَها
أفرادا مُتَفَرِّقِين .. لَم يَكُونُوا جماعةً يَلْتَفُّ بعضُها حولَ بعض،
وبِالهجرة صارُوا جَماعةً يَلْتَفُّ بعضُها حولَ بعض، ثم مع ذلك وُجِدَتْ لَهُم
الدولة .. وُجِدَتْ لَهم سِياسة مُستقِلّة، فرَأَوْا أنّ الأمّةَ وُلِدَتْ بِهذه
الهجرة، فَأَرَّخُوا بِهذه الهجرة.
ثم نَظَرُوا بِأيِّ شهْرٍ يَبْدَؤُون، فاتّفَقُوا على أن يَبدَؤُوا بِبَعْدِ شهْرِ
ذِي الحِجّة، نظرا إلى أنّ شهْرَ ذِي الحِجّة كان هو الشَّهر الذي يَجتَمِعُونَ
فيه في الحرَم الشرِيف مِن أجْلِ أداءِ المناسِك وبعدَ هذا الشهْر يَنصَرِف كلُّ
أَحَدٍ إلى أهلِه، فرَأَوْا أن تَكونَ البدايةُ بِشهْرِ المُحَرَّم .. أي بعدَ
شهْرِ ذِي الحِجّة الذي تُؤَدَّى فيه مناسِكُ الحج.
س9: ما رأيُكم في العتابِ الذي يُوجَّه بِشِدّة إلى مَن لا يَعتنِي بِالعامِ
الهجرِي وأَشْهُرِه لأنّ مُجْرَياتِ يَومِه وشَهرِه وعامِه تُقاس بِالتوقيت
الميلادِي فهو لا يَجِد في حركتِه اليومية ما يَربِطُه بِالشهر الهجري، فهل مثلُ
هذا العِتاب في مَحلِّه على مَن لا يَعتنِي بِالتارِيخ الهجري؟
ج: بِطبِيعةِ
الحال؛ أوّلا عليْنا أن نُدْرِك أنّ كلَّ أُمّة لا تَعْتَزُّ بِتأرِيخها هي أُمَّة
ضائِعة، فمَن لَم يَكُن لَه ماضٍ فليْسَ لَه حاضِر، والحاضِرُ إنَّما يُبْنَى على
الماضِي، وأيُّ ماضٍ أوْلَى بِأن يُبْنَى عليه الحاضِر مِن الماضِي الذي كان في
عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عَهْدِ المهاجِرِين والأنصار والذين
اتّبَعُوهُم بِإِحْسان.
على أنّ التأريخ الآخَر كان مَوجُودا مِن قَبْل ولَم يَكُن المسلِمون في عَمًى مِن
أَمْرِهم بِحيثُ ما كانًوا عارِفِين بِه، إذ كانُوا على اتِّصَال بِدوْلَةِ
الرُّوم وكانُوا يَعرِفُون هذا التأرِيخ، ولكن مع ذلك ما عَوَّلُوا على التأرِيخ
الآخَر وإنما عَوَّلُوا على التأرِيخ الهجرِي، وارْتَبَطوا بِهذا التأرِيخِ
الهجري.
وبِجانِبِ هذا فإنّ هنالِكَ اختِلافا ما بيْن التأْرِيخَيْن في مَدَارِهِما، ذلك
لأنّ التأرِيخَ الميلادي إنَّما يَدُورُ بِدَوَرَانِ الأشْهُر الشمسية، والتأْرِيخ
الهجري يَدُورُ بِدَوَرَانِ الأشهُرِ القَمَرِية.
وقد بَيَّن الله - سبحانه وتعالى - أنّ الأشهُرَ القَمَرِيَّة هِيَ مَدَارُ
الأحكامِ الشرعِية، فقد قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ... } [سورة البقرة، من الآية: 189]، ثُم بِجانِبِ
ذلك بَيَّنَ - سبحانه وتعالى - ارتِباطَ هذه الأشهُر القَمَرِيَّة بِصَمِيمِ
الدِّين الحنِيف في قوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ
اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ... } [سورة
التوبة، من الآية: 36]، فجَعَلَ هذا مِن صَمِيمِ الدِّينِ القَيِّم، مع أنّ الأشهُرَ
الحرُم لا تُوجَد إلا في الأشهُرِ القَمَرِية.
كذلك نَجِد أنّ الأحكامَ الشرعية كُلَّها تُناط بِهذه الأشهُر القَمَرِية، فالحج
إنَّما يَكونُ بِالشهُور القَمَرِية .. كذلك عِدَدُ النساء إنَّما هي بِالشهورِ
القَمَرِية .. الصيام إنَّما هُو لِشهرٍ مِن الشهُورِ القَمَرِية .. الزكاة يَجِبُ
دَفعُها بِدورانِ اثنَيْ عَشَرَ شهْرا مِنَ الأشْهُرِ القَمَرِية .. كذلك
بِالنِّسبةِ إلى بقيةِ الأحكامِ جَميعا.
فلِماذا إذن يُعْرِضُ المسلِمون عن التَّمسُّك بِهذا التأرِيخ الذي كان بِه
مِيلادُ أُمّتِهِم وكان بِه مِيلادُ دَوْلَتِهِم وكانَ بِه مِيلادُ جَماعتِهِم
ويَستمسِكُوا بِالآخَر؟!
وَنَحنُ نَجِد أنّ الصحابةَ فمَن بعدَهم إلى مُضِيِّ ثلاثةَ عَشَرَ قرْنا كانُوا
مُجْمِعِينَ على التأرِيخِ الهجري، فإذن معنَى هذا أنّ الخَلَفَ عليه أن يَحْذُوَ
حَذْوَ السَّلَف، فَلِمَاذا يُعرِضُ الخَلَف عن منهاجِ السَّلَف وقد كان هذا هو
شَأن السَّلَف الصالِح.
فإذن العِتَابُ مُوَجَّهٌ إلى الأُمّةِ مِن هذه النَّاحية ولاسيما الأفراد، فإنّ
الإنسانَ يَستطِيعُ أن يُؤَرِّخَ قضاياه بِالتأرِيخِ الهجري لاسيما مِثل تَرَاجِم
العلماء، فما الدَّاعِي لأن تَكونَ تَرَاجِم العلماء بِالتَّأرِيخِ الآخَر مع أنه
يُعرَفُ التأرِيخ الهجري، ونَحنُ نَجِد حتى العلماءَ الماضِين عندَما يُؤَرَّخُ
لَهم الآن ويُتَرجَم لَهم يُحَاوِلُون أن يُحَوِّرُوا التأرِيخ لِيَتَلاَءَم مع
التَّأرِيخِ الآخَر غيْر التأرِيخ الهجري، وأُولئِكَ العلماء مَضَوْا ولا يُعرَفُ
عندَهم إلا التأرِيخ الهجري، فما الداعِي إلى ذلك؟!
إنَّما هذه هزِيمة نفسِية، وهذه ارْتِكَاسَة والعياذ بِالله، فعلى الأُمّة أن
تَنْتَشِلَ نفسَها مِن هذه الارتِكَاسَة.
س10: هناك مَن يَتفاعَل مع هذا الحَدَث العظِيم فيَراه مناسبَةً دِينِية ولِذلك قد
تَتُوقُ نفسُه إلى صيامِ اليوم الأوّل مِن مَطلَعِ هذه السنَة الهجرِية، فما حكم
صِيام هذا اليوْم؟
ج: على
أيِّ حال؛ صيامُه كصِيامِ بَقِيةِ الأيام .. لا يُمنَع أن يَصومَ الإنسان أَوّلَ
يومٍ مِن أيامِ السنة، كما يَصُومُ أيَّ يومٍ مِن الأيامِ التي لا يُمنَعُ الصيامُ
فيها، إذ ليْس هنالِك مانِع مِن صيامِ هذا اليوم، كالمَانِع مِن صيامِ العِيدَيْن،
أو المَانِع مِن صيامِ أيامِ التَّشرِيق، أو المَانِع مِن إِفرادِ يومِ الجمعةِ
وحدَه بِالصيامِ كما جاءَ ذلك في الحدِيث .. هذا مِمَّا لَم يَكُن في صيامِ أوِّلِ
يومٍ مِن أيامِ السنة ولكن لَم تَرِدْ سُنَّةٌ-أيضا-بِتخصِيصِه بِالصيام .. هذا
مِمَّا لَم تَرِدْ بِه السّنَّة، فلذلك نَحنُ نَوَدُّ مِن الناس أن يَصُومُوا
وِفْقَ مُقتضَياتِ السنّة، فمِمّا يَنبغِي لِلناس أن يَصُومُوا اليومَ التاسِع
والعاشِر مِن المُحَرَّم، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صامَ يومَ عاشوراء،
وحَضَّ على صِيامِه، وقال: (لئِن بَقيتُ لأَصُومَنَّ التاسِعَ والعاشِرَ إن شاء
الله)، فتَطبِيقُ ما كان حرِيصا عليه صلواتُ الله وسلامه عليه مِمَّا يَنبغِي ألاّ
يَفُوتَ المسلِم.